وبالحق أنزلناه وبِالحق نزل

-A A +A

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين :

 يقول الله عز وجل :" وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا " {سورة الإسراء - الآيه 105}

إن خطة البحث في هذا المقال في بيان الإعجاز اللغوي في هذه الآية الكريمة ستكون كما يلي :

1"- تفسير الآية في بعض كتب التفاسير

2"- الفرق بين نزل و أنزل  والنزول و التنزيل

3"- تكرار كلمة الحق في الآية الكريمة

4"- دخول حرف الجر الباء و حرف العطف الواو

5"- مناسبة بداية الآية لنهايتها و لما قبلها و لما بعدها و مناسبة الآية لسورة الإسراء التي ذكرت فيها

 

أولاً : تفسير الآية في بعض كتب التفاسير

قال بعض المفسرين :

أنزلناه نأمر فيه بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة الحميدة، وننهى فيه عن الظلم والأمور القبيحة، والأخلاق الرديئة، والأفعال الذّميمة ( وَبِالْحَقِّ نزلَ ) يقول: وبذلك نزل من عند الله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.  /تفسير الطبري/

 

و قال بعضهم:

يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، وهو القرآن المجيد، أنه بالحق نزل، أي: متضمنًا للحق، كما قال تعالى: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء: 166 ] أي: متضمناً علم الله الذي أراد أن يُطْلِعكم عليه، من أحكامه وأمره ونهيه.

وقوله: { وَبِالْحَقِّ نزلَ } أي: ووصل إليك -يا محمد -محفوظًا محروسًا، لم يُشَب بغيره، ولا زِيدَ فيه ولا نُقص منه، بل وصل إليك بالحق، فإنه نزل به شديد القُوى، القَوِيّ الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى.    /تفسير ابن كثير/

 

و ورد في بعض كتب التفسير:

{ وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } أي وما أنزلنا القرآن إلا ملتبساً بالحق المقتضي لإنزاله ، وما نزل على الرسول إلا ملتبساً بالحق الذي اشتمل عليه . وقيل وما أنزلناه من السماء إلا محفوظاً بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين . ولعله أراد به نفي اعتراء البطلان له أول الأمر وآخره { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا } للمطيع بالثواب .

{ وَنَذِيرًا } للعاصي بالعقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار .     /تفسير البيضاوي/

 

و ورد أيضاً :

{ وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين {وَمَا أرسلناك } إلا لتبشرهم بالجنة وتنذرهم من النار ، ليس إليك وراء ذلك شيء ، من إكراه على الدين أو نحو ذلك .  /تفسير الزمخشري/

 

ثانياً : الفرق بين نزل و أنزل  والنزول و التنزيل

أنزلناه فعل متعدي من نزل

أنزل : أحل شيء مكان شيء

نزل: حل في مكان و آوى إليه

وقد تأتي أنزل بمعنى انحدر من علو إلى سفل و قد تأتي نزل بمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل

فمثال الأول : قوله تعالى: " أنزل من السماء ماء "  /النحل 65/

و مثال الثاني : نزل فلان من الجبل          /مناهل العرفان/

 

و نزل : النزول بالضم و هو في الأصل انحطاط من علو

و نزله تنزيلاً و أنزله إنزالاً و منزلاً  كمجمل و استتر له بمعنى واحد قال سيبويه و كان أبو عمر يفرق بين نزّلت و أنزلت و لم يذكر وجه الفرق قال أبو الحسن لا فرق عندي بينهما إلا صيغة التكثير في نزّلت و التنزيل تدريجي و الإنزال دفعي و قال المصنف في البصائر تبعا للراغب و غيره : الفرق بين الإنزال و التنزيل في وصف القرآن و الملائكة أن التنزيل يختص بالوضع الذي يشير إلى إنزاله متفرقاً منجماً مرة بعد أخرى و الإنزال عام

قال تعالى : " لولا نزلت سورة " محمد 20

و قال أيضا : " فإذا أنزلت سورة " محمد 20

و التنزيل الترتيب و التنزل النزول في مهلة    / تاج العروس ,لسان العرب/

 

و قد يكون الإنزال دون التنزيل " إنا أنزلناه في ليلة القدر"  /القدر 1/

و قد يكون إنزال الشيء بنفسه " و أنزلنا من السماء ماء" / المؤمنون 18/

و قد يكون بإنزال أسبابه و الهداية " و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد " /الحديد 25/

                                                                      /مناهل العرفان/

و عليه تكون مجمل المعاني لـ نزل تنزيلاً و أنزل إنزالاً هي :

المعنى الأول : أنزل احل شيء مكن شيء و نزل حل في مكان و آوى إليه و عليه يكون معنى الآية و الله أعلم

بالحق أنزلناه :أي أحللنا القرآن العظيم مكان الكتب السماوية السابقة فكان خاتماً و ناسخاً لها  و مؤيداً لها بالعقيدة و الأخلاق و وحدة المصدر " إن الدين عند الله الإسلام " /آل عمران 19/

وبالحق نزل : أي أن هذا التشريع العظيم الذي جاء به القرآن الكريم قد حلّ و آوى في هذه البقعة من العالم و في هذه الفترة الزمنية ليكون هداية للناس بعدما ضلت فترة من الزمن

 

المعنى الثاني : نزل و أنزل بنفس المعنى و تعني تحرك الشيء و انحداره من علو إلى سفل و عليه يكون معنى الآية و الله أعلم

بالحق أنزلناه : أي أن القرآن العظيم في علو إذ لا يقدر أحد على تحريفه أو الطعن فيه أو الإتيان بمثله أو تحديه

و بالحق نزل :أي أن هذا التشريع و هذا الدين هو في علو  لأنه أسمى و أطهر و أفضل للناس مما كانوا عليه فأثبت لهم ما كان من الأخلاق الفاضلة و بدّل لهم أخلاقهم السيئة و اعتقاداتهم الخاطئة

 

المعنى الثالث : التنزيل و الإنزال

 التنزيل تدريجي و هو النزول في مهلة و الإنزال دفعي و هذا يتناسب مع الآيات التي ذكر فيها التنزيل و الإنزال

قال تعالى : " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه و أنزل التوراة و الإنجيل " /آل عمران 3/

فقد خص القرآن بالتنزيل لنزوله منجماً

وقوله تعالى : " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب "  /الكهف 1/

فالمراد هنا الإطلاق من غير اعتبار التنجيم

و كذا قوله تعالى : " إنا أنزلناه في ليلة القدر " /القدر 1/

فالمراد إنزاله إلى سماء الدنيا دفعة واحدة ثم تنزيله منجماً على النبي محمد صلى الله عليه و سلم في ثلاثة و عشرين سنة .

و الملاحظ في القرآن الكريم ورود فعل نزل /22/مرة و فعل نزلنا /6/ مرات و فعل ينزل /17/مرة و فعل ننزل /2/ مرة و فعل ننزله في آية واحدة و فعل نزلناه في آية واحدة

و فعل أنزل /83/مرة و فعل أنزلنا /25/مرة و فعل أنزلناه /14/مرة

و المصدر تنزيل /10/مرات و كلمة تنزل /7/ مرات و كلمة نزلاً /6/ مرات

 

ثالثاً : تكرار كلمة الحق في الآية الكريمة

إن كلمة الحق و ردت في الآية الكريمة مرتين و وردت معرّفة و الاسم المعرّف إذا تكرر فهو يفيد الاختلاف أي أن الحق الأول غير الحق الثاني

و بالرجوع إلى الفرق بين الفعل أنزل و نزل نجد أن الفعل أنزل الذي يفيد معنى الاستبدال و الإحلال  قد دخل على الحق الأول و هذا يتناسب مع كون الحق الأول يفيد معنى القرآن الكتاب السماوي الذي تم إحلاله مكان الكتب السماوية السابقة و ليكون كتاباً و هداية للناس كافة و هذا يتناسب أيضا مع الآيات السابقة لهذه الآية و التي تتحدث عن بني إسرائيل و هم من أهل الكتاب  و استعمل لفظ الحق في التعبير عن القرآن في هذا الموضع و الله أعلم لأن القرآن الكريم لا يمكن تحريفه أو الكذب عليه كما فعلوا بالكتب السماوية السابقة و ذلك لأن الله عز وجل قد تكفل بحفظه قال تعالى : " إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون " /الحجر9 / و لأنه لا يمكن لأحد أن يأتي بمثله أو بسورة منه أو يتحداه كما وأن إعجازه باقٍ إلى أن يشاء الله

أما الحق الثاني فقد دخل عليه فعل نزل الذي يفيد الانحدار من علو إلى سفل و هذا يتناسب مع كون الحق الثاني يفيد معنى التشريع و الهداية و العقيدة و الأخلاق التي نزلت إلى هذه البقعة من الأرض و في تلك الفترة الزمنية تحديداً حيث كان الناس في مستوى متدني من العقيدة الفاسدة و بعض الأخلاق الفاحشة و ارتكاب المحرمات فجاء الإسلام بتشريعه الرقي و عقيدته الصحيحة و إتمامه لمكارم الأخلاق ليرتقي بهم و بأخلاقهم و هذا المعنى يتناسب أيضاً مع الآيات اللاحقة لهذه الآية و التي تطالب الناس بالإيمان بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه و سلم و استعمل لفظ الحق في التعبير عن هذا التشريع العظيم و عقيدته و أخلاقه الفاضلة و ذلك لأن الحق ضد الباطل والإسلام أبطل ما كان سائدا حينئذٍ من شرك بالله و عبادة الأوثان و أعراف سيئة و أخلاق ذميمة من قتل و سرقة و زنا و وأد البنات و عدم إعطاء المرأة حقوقها و غيرها من الأمور التي أبطلها الإسلام

 

 رابعاً : دخول حرف الجر الباء و حرف العطف الواو

إن حرف الجر الباء يدخل على الشيء الذي استبدل به فدخلت الباء على الحق الأول الذي بمعنى الكتاب السماوي الذي  جاء مكان الكتب السماوية السابقة

و دخلت على الحق الثاني الذي بمعنى الإيمان و الهداية الذي حلّ مكان الشرك و عبادة الأوثان و الأخلاق الذميمة

أما حرف العطف الواو فهو يفيد الاقتران و المغايرة

الاقتران لأن كلاهما حق و النزول و الإنزال من عند الله عز وجل و المغايرة حيث أن الحق الأول غير الحق الثاني فالأول بمعنى الكتاب السماوي و الحق الثاني بمعنى الهداية و الإيمان

 

خامساً : مناسبة بداية الآية لنهايتها و لما قبلها و لما بعدها و مناسبة الآية لسورة الإسراء التي ذكرت فيها

لنقرأ الآية الكريمة كاملة قال تعالى :

"بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشراً و نذيرا"

مناسبة بداية الآية لنهايتها : لقد ختمت الآية بقوله مبشراً و نذيراً

و البشارة بسيدنا محمد صلى الله عليه و سلم قام بها السيد المسيح عليه السلام و قال الله تعالى حاكيا عنه : " و مبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " /الصف 6 /أما الإنذار فقد قام به سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم لقومه إذا لم يؤمنوا بالله عزوجل فانظر لترتيب الحق الأول و الثاني و معانيهما في بداية الآية مع ترتيب البشارة و الإنذار في خاتمة الآية

 

مناسبة الآية لما قبلها و ما بعدها :

إذا كان الحق الأول بمعنى الكتاب السماوي و الحق الثاني بمعنى الهداية و الإيمان فلاحظ أن الآيات السابقة للحق الأول تتحدث عن بني إسرائيل و هم من أهل الكتاب و الآيات اللاحقة للحق الثاني تتحدث عن الإيمان

 

مناسبة الآية لسورة الإسراء التي ذكرت فيها :

إن هذه الآية الكريمة ذكرت في سورة الإسراء و التي تتحدث عن معجزة من معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم و هي معجزة الإسراء و المعراج و الإسراء كان من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السماء من بيت المقدس و مكة المكرمة هي المكان الذي نزل فيه هذا الدين العظيم و تم حث الناس فيه على الإيمان أما بيت المقدس فهو مهبط الأديان السماوية السابقة و التي نزلت فيها الكتب السماوية السابقة

فانظر إلى هذا الترابط البديع في هذه الآية الكريمة بين بدايتها و نهايتها و بينها و بين الآيات السابقة و اللاحقة و بينها و بين السورة التي ذكرت فيها   و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

المصادر: 

1"- تفسير الطبري
2"- تفسير البيضاوي3"- تفسير ابن كثير
4"- تفسير الزمخشري
5"- لسان العرب
6"- تاج العروس
7"- القاموس المحيط
8"- مناهل العرفان في علوم القرآن ,محمد عبد العظيم الزرقاني

Comments

التعليقات

الله يفتح عليك يا استاذ

و ما أرسلناك إلا مبشراً و نذيرا , الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبش والمنذر .

إضافة تعليق